عرض المقال
حكايات من زمن الفتنة
2013-04-09 الثلاثاء
أكره عبارة الفتنة الطائفية لوصف الأحداث الأخيرة ضد المسيحيين فى مصر؛ لأنها تعطى انطباعاً زائفاً بأنها مجرد جرح سطحى سرعان ما يلتئم بمجرد عناق الشيخ والقسيس وهتاف الهلال مع الصليب، فالألم ليس ناتجاً عن خدش سطحى، وإنما هو جرح عميق أغلق على صديد وقيح، غرغرينة ستنتهى حتماً بالبتر، الفتنة ليست توصيفاً منصفاً، إنها بربرية، إنها إرهاب، تأجيج لكل المشاعر المتدنية العنصرية البغيضة التى هجرتها الحضارة ووضعتها المدنية فى متاحف التاريخ، ولكنك أحياناً تُجبر على تداول عملة رديئة نظراً لأنها هى السائدة والمألوفة، لذلك سأستخدم مجبراً لفظ الفتنة بالرغم من عدم اقتناعى به، ولكن لسهولة ترجمة دلالاته، هذه الفتنة ليست زَبداً على السطح سيذهب جفاء، ولكنها أمواج البحر نفسه، هذه الفتنة ليست قناعاً على الوجه يُرتدى ويُخلع، ولكنها هى الوجه نفسه بعضلاته وجلده وأعصابه وملامحه، الفتنة ليست عرضاً لمرض عابر، بل هى ساكنة الجسد الأصلية وكرات دمه الحمراء ونخاعه الشوكى! ويمكننى أن أكرر مع نزار قبانى أبياته بشىء من التعديل «لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية عنصرية طائفية»! سأحكى لكم حكايات من زمن الفتنة عاصرتها عن قرب، حكايات ليست للأطفال، فالأطفال لا تسكنهم العنصرية ولا يعرفون الحقد والغل، ولكنها للكبار الذين يحرقون وطنهم فى أفران الطائفية ويسلخون جلود بعضهم البعض بأظافر الخلاف الدينى وأنياب النبش فى الضمير والنية والهوية، نار التعصب عمياء تجعل الحواس معطلة والعقل مشلولاً يترجم الأحداث على هواه، حكاية عاصرتها وأنا ما زلت أتطلع إلى دخول كلية الطب عندما انتشرت شائعة بأن هناك مسيحيين يرشون سبراى على حجاب وخمار المسلمات فيتحول الحجاب إلى صلبان! وبالطبع قامت الدنيا ولم تقعد وانتشرت ألسنة لهب الفتنة فى ربوع أسيوط بسبب إهانة الحجاب، كانت كل أنواع الخمار والحجاب وقتها من القماش البوليستر المستورد من الصين وكان نسيجه ولحمته وسداه من الخطوط العمودية على بعضها، التى عندما تسقط نقطة حبر عليها تتمدد بنفس الشكل وترسم صليباً، وقد أجرى أبى، رحمه الله، هذه التجربة أمام عينى وبالفعل رسم الحبر علامة الصليب فوراً، لم يقتنع معظم من كانوا جالسين معى بتجربة أبى؛ لأنهم كانوا يرغبون فى تنفس جو المؤامرة وهكذا عطل التعصب حواس البشر، الحكاية الثانية لمستها عندما دخلت كلية الطب وسمعت من زملائنا الأكبر منا عن شخصية أستاذ من زمن ما قبل الثورة صوروه لنا على أنه دراكولا الذى يمص دماء المسلمين ويضطهدهم، إنه د.نجيب محفوظ، واحد من أعظم أطباء النساء ليس فى مصر وحدها بل فى العالم، الذى زرعوا فى فصوص أمخاخنا أنه شيطان رجيم، سألت نفسى سؤالاً منطقياً: لو كان هذا الرجل المسيحى بمثل هذه العنصرية المقيتة لرأينا أجيالاً وأجيالاً من أساتذة النساء المسيحيين، الذين عينهم نجيب محفوظ، يملأون جنبات القسم بعد رحيله؟! لكن ما حدث أنه بعد خروج هذا الرجل فى الأربعينات لم نر أستاذاً أو حتى مدرساً مسيحياً لهذا التخصص، توجهت بحيرتى وأسئلتى إلى أستاذى د.محمد أبوالغار الذى وضح لى الحقيقة، وأن هذا الكلام غير حقيقى، وأنه لا يصح أن نترجم أى خلاف فى العمل إلى طائفية، وقال لى إن د.نجيب محفوظ على العكس أرسل بعثة فيها ثلاثة من الأطباء، منهم اثنان مسلمان وواحد مسيحى، إلى إنجلترا، وقد نجح المسلمان وتم تعيينهما أستاذين فى القسم، ورسب الطبيب المسيحى عدة مرات، ورحل نجيب محفوظ، ورفض قسم النساء والولادة بطب القاهرة تعيين حفيده الدكتور سميكة أو منحه الدكتوراه، وأصبح هناك قانون غير مكتوب بين أساتذة النساء القدامى وبين طلبة الطب المسيحيين أنفسهم بأنه لا مكان للقبطى فى قسم النساء والولادة، حتى من أفلت من المسيحيين الأوائل وعافر وقاوم وعُين نائباً وكان اسمه مرقس أصابه اليأس والقنوط وعرف أن الطريق مغلق بالضبة والمفتاح، وكذلك حكاية د.كريم، الذى أذكر اسمه الأول جيداً؛ لأننى عندما كنت طبيب امتياز وقف بجانبى وشجعنى على أن أساعده فى عملية حَول، وكان كريماً بالفعل معى، فوجئت بهذا الطبيب النابه الشاطر جداً يضطهدونه فى التعيين بالرغم من تفوقه، ثم عندما أعيتهم الحيل بعد تصعيد الأمر قرر رئيس القسم حرمانه من دخول غرفة العمليات! وبعد أن تخرجت وتخصصت عرفت أن هناك متفوقاً آخر اسمه د.ميخائيل قد تم حرمانه من التعيين فى قسم الجلدية وبعد أن أصابه اليأس اتجه إلى قسم البكتيريا حيث لا يتعامل مع المرضى!
إنها حكايات زمن الفتنة التى لا ينفع فيها كلام من قبيل «جارى المسيحى كان بيجيب لنا كحك فى العيد وابنى المسلم كان بيرضع من الست دميانة».. إلى آخر هذه الحكايات التى كانت حقيقة وواقعاً وتحولت إلى أساطير وخيال ألف ليلة وليلة.